عندما يكبر الفيل سيتمتع بالقوة الكافية التي تمكنه من قطع الحبل وربما كسر العمود، لكنه حتى لن يحاول القيام بهذا، لقد استسلم تماما وتعلم أن أي نوع من الكفاح لا طائل منه، وأن المحاولة ستكون غير مجدية بالضرورة، نتيجة لتجارب الفشل المتكررة التي تعرض لها في وقت سابق من حياته.(1)

ماذا ستفعل إذا واجهت تجربة مؤلمة ما؟ من المؤكد أنك ستحاول بشكل لا إرادي تفادي التعرض لها مجددا من أجل تجنب تجدد الآلام، ماذا إذا تكرر الأمر مرة بعد مرة وفشلت كل مرة في تجنب النتائج السيئة؟ هل يمكن أن يصل المرء إلى مرحلة لا يبذل فيها أي محاولة للنجاة من التجارب المحبطة أو المؤلمة؟ المفاجأة أن بعضنا أحيانا ما يصل إلى هذه الحالة بالفعل بسبب كثرة الضغوط والأزمات التي تعرض لها، والتي أفقدته إدراكه لفكرة أنه يمكنه التحرك والنجاة، هذه الحالة هي ذاتها التي جعلت الفيل يستسلم لوثاقه ولا يحاول التخلص من الأسر، ويُطلَق عليها اسم "العجز المكتسب".

يحدث العجز المكتسب عندما يبدأ البشر أو الحيوانات الأخرى في الاعتقاد أنه ليس لديهم أي سيطرة على ما يحدث لهم، فيبدؤون في التفكير والشعور والتصرف كما لو كانوا عاجزين تماما. (شترستوك)

العجز المكتسب هو ظاهرة لوحظت في كلٍّ من البشر والحيوانات، خلالها يتوقع الشخص الألم أو المعاناة أو عدم الراحة دون أن يحاول الهرب أو حماية نفسه حتى إن كان هناك فرصة متاحة لفعل ذلك، يحدث العجز المكتسب عندما يبدأ البشر أو الحيوانات الأخرى في الاعتقاد أنه ليس لديهم أي سيطرة على ما يحدث لهم، فيبدؤون في التفكير والشعور والتصرف كما لو كانوا عاجزين تماما، يحدث هذا الأمر بسبب سيطرة فكرة واحدة، وهي أنه من غير المجدي حتى "محاولة" السيطرة أو تغيير ما يحدث.

تجارب سيليجمان

يرى مارتن سيليجمان وهو عالم نفسي سلوكي في جامعة بنسلفانيا أن "تصوراتنا حول القوة والقدرة على التحكم يتم تكوينها من خلال التجربة"، أوضح سيليجمان أنه بعد أن يحاول الشخص القيام بشيء ما ويفشل بشكل متكرر يصبح من الطبيعي بالنسبة له أن يستسلم تماما، على الرغم من أنه قد يكون ما زال لديه فرصة لإصلاح الموقف أو تغييره، فكرة سيليجمان هذه هي ما أدت في النهاية إلى نشأة مفهوم "العجز المكتسب" الذي يسعى لتفسير سبب بقاء الأفراد بلا فعل ولا حراك في المواقف السلبية على الرغم من قدرتهم الواضحة على تغييرها.(2)

توصل سيليجمان ورفيقه ستيفن ماير إلى نتائجهما من خلال اختبار استجابة الكلاب للصدمات الكهربائية، في إحدى التجارب تعرضت بعض الكلاب لصدمات كهربائية لم تستطع التنبؤ بها أو السيطرة عليها بشكل متكرر، في المرحلة التالية وُضِعت الكلاب في صندوق به حجرتان فُصِلتا من خلال حاجز منخفض، كانت إحدى الغرفتين لها أرضية مكهربة والأخرى لم تكن كذلك، عندما وضع الباحثان الكلاب في الصندوق وشغلوا الأرضية المكهربة لاحظوا شيئا غريبا، وهو أن الكلاب التي تعرضت للصدمات في المرحلة الأولى لم تحاول حتى القفز فوق الحاجز المنخفض إلى الجانب الآخر.(3)

للتأكد من هذه النتيجة أجرى سيليجمان وماير تجربة أخرى جمعا خلالها مجموعة جديدة من الكلاب وقسماها إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى رُبِطت الكلاب فيها بأحزمة لفترة من الوقت ولم تتعرض لأي صدمات، المجموعة الثانية رُبِطت الكلاب فيها بنفس الأحزمة، لكنها تعرضت لصدمات كهربائية يمكن تجنبها بالضغط على أحد الألواح بأنوفها، أما المجموعة الثالثة فتم ربطها أيضا بنفس الأحزمة، لكن هذه المجموعة تعرضت لصدمات كهربائية غير مسيطر عليها، حيث لم يتم إعطاء الكلاب في هذه المجموعة أي وسيلة لتجنب الصدمات.

(شترستوك)

في المرحلة التالية من هذه التجربة وُضِع كل الكلاب واحدا تلو الآخر في الصندوق ذي الغرفتين، استطاعت الكلاب من المجموعة الأولى والمجموعة الثانية أن تدرك أنها تحتاج فقط للقفز فوق الحاجز المنخفض لتجنب الألم الناتج عن الصدمات الكهربائية، وهو الأمر الذي لم تستطع معظم الكلاب من المجموعة الثالثة إدراكه أو التوصل إليه، استسلمت الكلاب التي تنتمي إلى هذه المجموعة للألم ولم تحاول تجنبه، سبب قيام كلاب المجموعة الثالثة بهذا السلوك هو تجربتهم الأولية التي استخلصوا منها أنه لا يوجد شيء يمكنهم القيام به لتجنب التعرض للألم.(4)

بمجرد تأكيد هذه النتائج مع الكلاب أجرى سليجمان وماير تجارب مماثلة على الفئران، وتوصلا للنتائج ذاتها مرة أخرى، الفئران التي وُضِعت في البداية في مجموعة الصدمة التي لا مفر منها لم تحاول الهرب لاحقا عندما أصبح أمامها فرصة للهرب، بينما نجحت معظم الفئران في المجموعتين الأخريين في الهروب.(5)

على الرغم من أن استجابة الإنسان لمثل هذه المواقف التي يتعرض خلالها للضغوط والألم قد تكون أكثر تعقيدا وتعتمد على عدة عوامل مختلفة فإنها لا تزال تتشابه مع استجابات الكلاب والجرذان والحيوانات الأخرى، في عام 1974 أُجرِيت دراسة حول العجز المكتسب عند البشر، تم تقسيم المشاركين إلى ثلاث مجموعات، إحدى هذه المجموعات تعرضت لضوضاء عالية ومزعجة، لكن مع قدرة على إنهاء هذه الضوضاء من خلال الضغط على زر أربع مرات، المجموعة الثانية عُرِّضت لنفس الضوضاء، لكن الزر الذي كان يُمكِّنها من إيقاف الضوضاء لم يكن يعمل، أما المجموعة الثالثة فلم تتعرض لأي ضوضاء على الإطلاق.(6)

 

في مرحلة تالية من التجربة تعرض جميع المشاركين لضوضاء عالية وأُعطوا صندوقا به رافعة تؤدي عند تحريكها إلى إيقاف الصوت، أوضحت النتائج أن أولئك الذين لم يكن لديهم إمكانية التحكم في الضوضاء خلال الجزء الأول من التجربة لم يحاولوا حتى إيقاف الضوضاء، بينما اكتشف باقي المشاركين كيفية إيقاف الضوضاء بسرعة كبيرة.

المهم بشأن هذه التجربة هو أن هذا "العجز المكتسب" ليس مجرد ظاهرة معملية مرتبطة بتصرفات محدودة التأثير مثل إيقاف الضوضاء، ولكنه يؤثر على الحياة بأكملها، وفقا لسيليجمان فإنه عندما يفقد البشر القدرة أو الرغبة في التصرف فإن ذلك يصاحبه تداعيات سلبية أخرى، تشمل تدني احترام الذات والفشل المزمن والحزن وربما المرض الجسدي.(2)

من كورونا إلى الأزمة الاقتصادية

لا تزال الأزمة الاقتصادية تلقي بشباكها على الجميع دون أن يعلم أحد متى ستنتهي، قد يؤدي هذا إلى وصول البعض إلى نقطة العجز المكتسب.(شترستوك)

في دراستهما عن اليأس والعجز عرَّف الباحثان فرانك شيا وإليزابيث هيرلي العجز بأنه "الاقتناع بأن كل ما يمكن فعله قد تم القيام به بالفعل، ما يؤدي إلى عدم القدرة على حشد الطاقة والجهد لفعل المزيد"(7)، يمكن أن يصف هذا التعريف شعور الكثيرين ممن شهدوا انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، ثم الأزمة الاقتصادية التي تلتها بما تتضمنه من ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار السلع والخدمات، ووصولا إلى الزلزال الأخير في تركيا وسوريا، ربما تستطيع بسهولة أن تلاحظ أن نتائج هذه الأزمات قد فرضت نفسها على جوانب حياتك كافة حتى صحن طعامك، بعد أن شهدت السلع الغذائية زيادات كبيرة في الأسعار.

بدأ انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد في نهاية عام 2019، الآن نحن في عام 2023 ولا تزال الأزمة الاقتصادية تلقي بشباكها على الجميع دون أن يعلم أحد متى ستنتهي، قد يؤدي هذا إلى وصول البعض إلى نقطة العجز المكتسب الذي يشير إلى الشعور بعدم القدرة على تغيير أو السيطرة على الموقف.

وفقا لـ"جمعية المكافآت ومزايا الموظفين (REBA)" فإن الشعور بالعجز واليأس وفقدان السيطرة أصبح هو الاتجاه المتزايد في أماكن العمل منذ بدء انتشار فيروس كورونا، حينها شعر الموظفون بأنهم عالقون في مأزق الوباء، في بداية الوباء تعامل بعض الموظفين مع الأمر على أنه فرصة للتكيف مع طرق العمل الجديدة، مع مرور الوقت بدأ "العجز المكتسب" في الظهور ليتحول هذا الموقف الإيجابي إلى التشاؤم والإحباط.(8)(9)

لا يقتصر الأمر على أماكن العمل فيما يبدو، فقد أشارت بعض الدراسات إلى "العجز المكتسب" فيما يتعلق بمسألة التعلم عن بعد، أوضحت دراسة نُشِرت عام 2021 أن العديد من الطلاب الذي تحولوا إلى نظام التعليم عن بعد اختبروا مشاعر العجز المكتسب بجانب معاناتهم من ضعف الصحة العقلية بشكل عام، أضافت نتائج الدراسة أن هناك العديد من العوامل التي أسهمت في حدوث هذه الظاهرة، مثل: نقص التحفيز، والإرهاق المتزايد من التعلم عبر الإنترنت، وضياع مشاعر الترابط بين الطالب والمعلم والطالب وزملائه، والتي لم يكن من الممكن إعادة إنشائها من خلال برامج وتطبيقات الاجتماعات والدردشة عبر الإنترنت.(10)(11)

 

ما إن بدأت الضغوطات الناتجة عن انتشار الوباء تنفرج قليلا حتى سيطرت أزمة أخرى على تفكير الناس ومشاعرهم، وهي الأزمة الاقتصادية، والتي حملت "العجز الخاص" المصاحب لها، يخبرنا موقع "Thought Economics" أننا عندما نتحدث عن الثقة الاقتصادية، أو الثقة في الأعمال التجارية، أو حتى الثقة في الأسواق العالمية، فإننا نتحدث هنا عن عقلية غالبية المشاركين في الأسواق والأعمال التجارية، ماذا سيحدث عندما تختل أو تضطرب هذه العقلية؟ ببساطة سيتوقف الناس عن المشاركة في الأسواق والأعمال التجارية وسيصابون بالعجز.

في بداية الوباء تعامل بعض الموظفين مع الأمر على أنه فرصة للتكيف مع طرق العمل الجديدة، مع مرور الوقت بدأ "العجز المكتسب" في الظهور ليتحول هذا الموقف الإيجابي إلى التشاؤم والإحباط. (شترستوك)

حينما يكون السوق مزدهرا يشعر المشاركون بالطمأنينة والقليل من الخطر، هنا يقومون بالاستثمار في أعمالهم، ويخلقون فرص العمل، ويحققون أرقاما اقتصادية قوية، بينما في ظروف "الكساد" نرى الجميع يحاولون البحث فقط عن كيفية تحقيق الأمان، هنا يظهر العجز المكتسب، حيث يتوقف الكثيرون عن التحرك ويحاولون فقط الوقوف آمنين في أماكنهم، هنا يخزن المستثمرون رؤوس أموالهم ويركضون نحو الأصول الآمنة، ما يتسبب في انخفاض المؤشرات الاقتصادية، يعني ذلك أن الاقتصاد يؤثر في الحالة النفسية للناس، ثم تأتي هذه الحالة النفسية لتؤثر بدورها في الاقتصاد وتزيد من حالة الكساد.(12)

وهنا يأتي السؤال: هل يصاب الجميع بشكل حتمي بالعجز المكتسب في الظروف الصعبة؟ الجواب: لحسن الحظ أن ذلك الأمر لا يؤثر على الجميع، وحتى المتأثرون لا يختبرون نفس القدر من المشكلات، يمكن أن تزيد التجارب السيئة السابقة التي تعرض لها بعض الأشخاص من احتمالية إصابتهم بالعجز المكتسب، من هذه التجارب إساءة المعاملة في أثناء فترة الطفولة أو التعرض للعنف المنزلي.

نأتي الآن للسؤال الأهم: إذا كنا جميعا نعيش في مناخ يشعرنا بفقدان السيطرة، فهل من طريقة يمكن أن تساعدنا في التغلب على الأمر وتمنحنا بعض الشعور بـ"السيطرة" في هذه الظروف الصعبة؟

حسنا، كما أوضحنا فإن الأمر يحدث في عقلك قبل كل شيء، لذلك فإن نقطة البداية هي الطريقة التي تخاطب بها نفسك، وتفسر لها ما يحدث، هذه الطريقة هي التي تتحكم في كيفية إدراكك لحدث محدد، الأشخاص ذوو الأسلوب التوضيحي السلبي يكونون أكثر عرضة لتجربة العجز المكتسب، بينما الأشخاص الذين لديهم أسلوب تفسيري إيجابي هم أقل عرضة لتجربة هذا العجز، لذلك حاوِل أن تخبر نفسك دائما أن الأمر مهما بدا صعبا فإنه مؤقت، وأن بالإمكان دائما اتخاذ خطوات للتكيف وتقليل الأضرار.(13)

يمكن أن يساعد النشاط البدني على دعم وتعزيز الصحة العقلية، ويقلل أو يمنع حالات مثل القلق والاكتئاب والتوتر. (الألمانية)

من العلاجات التي تساعد في التعامل مع العجز المكتسب أيضا العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، الهدف من هذا النوع من العلاج هو مساعدة الأشخاص على تحديد أنماط التفكير السلبية التي تسهم في الشعور بالعجز المكتسب، ثم استبدال هذه الأفكار بأفكار أكثر تفاؤلا وعقلانية، غالبا ما تتضمن هذه العملية تحليلا دقيقا لما يفكر به الشخص، ثم العمل على تحدي هذه الأفكار بفاعلية، ومناقشة أنماط التفكير السلبية.

خلال هذا النوع من العلاج يمكن للأشخاص الذين يعانون من العجز المكتسب تلقي الدعم والتشجيع، واستكشاف أسباب إصابتهم بهذا العجز، وتحديد السلوكيات التي تعززه، ثم تطوير بعض الطرق التي تساعد على هذا الشعور.(13)

من ناحية أخرى يمكن أن يساعد النشاط البدني على دعم وتعزيز الصحة العقلية، ويقلل أو يمنع حالات مثل القلق والاكتئاب والتوتر، إحدى الدراسات التي أُجرِيت على الحيوانات أوضحت أن ممارسة التمارين الرياضية يمكن أن تساعد في تقليل أعراض العجز المكتسب(14)، كذلك فإن اتباع نظام غذائي صحي وممارسة اليقظة الذهنية هي تغييرات أخرى في نمط الحياة يمكن أن تعزز الصحة العقلية للشخص.

قد يكون الحصول على الدعم الاجتماعي والتشجيع من الآخرين مفيدا أيضا، عندما تشعر بالعجز في مواجهة تحدٍّ ما يمكن للأشخاص الداعمين تحفيزك وتشجيعك على الاستمرار في المحاولة، مع الوقت والمحاولة المستمرة يمكنك في النهاية الوصول إلى طريقة ناجحة يمكنها أن تساعدك على الشعور بمزيد من التحكم واسترداد قدرتك على الشعور بالسيطرة.(15)

 

_________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة